الحسد
يحب الله تعالى من عباده نقاء القلوب من الأهواء والسخائم كلها ،
والحسد خاصة ، فالحسد ضيق عطن ،وعتمة في أعماق النفس و بقعة كابية تزفر نتناً لا
يزهر معه شيء من أفانين الدنيا ، وفيه محادة للمتفضل سبحانه فيما يحب من نشر رحمته
على عباده ، وإجابة دعائهم ، والمنّ عليهم بالرزق ، واللطف بحالهم ، ولأن الحسد
يعمي الإنسان عن الإحساس بالنعم المحفوف بها ؛ يشوكه أن يرى عباد الله في النعم ،
فهو لضيق عطنه يرى أنه وحده الذي ينبغي أن ينفرد بالنعم ،وإنك إن أردت أن تعرف أي
المؤمنين أتم نعمة ، وأزكي سيرة ، وأحمد عاقبة في الدنيا والآخرة ؛ فاعلم
أنه من منحه الله القلب السليم ، لأنه لن يقبل يوم القيامة سواه .
والحسد مرتبط بهذه الحياة الدنيا ارتباط الشجرة بالبذرة ، فكلما
أوغلنا في أدغال الدنيا وأحراشها؛ انسرب إلينا هذا الداء وتشرى ، ألم يكن الشعور
الأول الذي بدأت به الدنيا في قصة الخلق الأول ، ألم تنفثه نفس شيطانية عزفت على
وتر الدنيا والخلود وملك لا يبلى ، ألم يهرق الحسدُ الدمَ الأول وينشر غيمة سوداء
فوق الأرض الطاهرة ، فالحسد لا سبب له سوى سوء الطوية وخبثها ، فإن بقية
الأدواء القلبية قد يكون لها مسوغاتها وأسبابها ,فالضغينة وإن كانت محرمة و شية
تلوث الداخل إلا أن لها ما يسوغ ويسني وجودها ، فقد يكون الحاقد تعرض لظلم عظيم
لم يستطع له رفعاً ولا دفعاً ، فاستكنت السخيمة . لكن الحسد غراب يدلك على
أن الروح قد تجيفت.
الحاسد يعظُم جانبه الأعمى فلا يكاد يحس بنعم الله تعالى عليه ، فلا
يشكر ، ولا تمنّنه الآلاء ( تشعره بالامتنان).
هجّيراه فلان " محسوده" ما فعل ؟ ما قال ؟ ماذا عنده ؟
ومنشأ الحسد كبر في النفس يظن الفرد بسببه أنه المستحق للنعم لا غيره
( انظر كيف كذبوا على أنفسهم ) فإن وجد النعمة لغيره ذهبت وخزته وخزةً عند الله
خبرها !
والحاسد ثقيل الجانب تدور الأحاديث فلا يتسقط منها إلا ما يشفي غله ،
ويبرّد سخنة عينه .
إن كان الامر على ما لا يحب من توالي نعم الله على عباده ـ وهو فعل
مدح الله به نفسه ـ ضاق وماج ونهضت من نفسه شرارة خبيثة دمرت بالقدر الذي يشفيه
.أرأيت أين المرض ؟ أن ما يمدح الله به نفسه من الإنعام على العباد سخنة عين
صاحبنا ، وحرقة قلبه ، حتى يداريها إلى حين .
وهذه "الخَبثة" في نفسه توحره ( من الوحر) وتسخم قلبه ،
فيتقيها بدماثة خلق كاذبة ( بائخة ) و إظهار لطيبة ليست من أصله ؛ فيتصنع البر
وليس من أهله ،وهو شائك حرنٌ في خبيئة نفسه .
وكلما دار الإنسان في الكلام حول نفسه وعظم شأنها وظن أنه الذي لا
يبارى ولا يشق له غبار كان نصيبه من وجع القلب ، ووخزة النفس نصيب الأسد إذا سمع بنعمة
تنعم بها محسوده .
وهذه النفس القذرة لا تعلو ، وإن تنسم الحاسد منصباً فإنه لا يسود ،
فكلما تلطخ الداخل وتقذر ؛ ثقلت الروح وركنت النفس إلى الأرض فلم تعلُ، كيف يسود الواطئ
الثقيل ؟
وبلغ من خبث هذه الخصلة أنه لا يقر بها أحد من الناس أنها فيه ,وأنه
متلبس بها فلا تنهض الهمم إلى الخلاص منها خلاصاً صحيحاً فيكتفي الناس بنفي وجودها بأفواههم ، ثم لا
يلوون على شيء .بل بلغ من خبثها أنها إذا ذكرت استدعى الإنسان الناس الذين يحبهم
ويحدب عليهم في ذهنه فلم يلمح من الشر شيئاَ فينكر أنها فيه . ولو صدق مع نفسه
واستدعى في ذهنه من يرى فيه منافساً ، أو آخذاً من أمر الدنيا ما يظن أنه يستحقه
إذن لعلم الحق : أنه ما خلا جسد من حسد ، فلا
يحسد الإنسان الناس كلهم ، بل قد يحسد من الخلق كلهم واحدا ً، هذا الواحد كفيل أن يحصد حسناته حصدا ً.